قصص مؤثّرة يجب أن تقرأها من مجموعة (النظرات) للمنفلوطي

القائمة الرئيسية

الصفحات

قصص مؤثّرة يجب أن تقرأها من مجموعة (النظرات) للمنفلوطي

أجمل 5 قصص من مجموعة النّظرات 


على غرار المقالات الأدبيّة، و السّياسيّة، و الاجتماعيّة، فإنَّ كتاب (النّظرات) بأجزائه الثلاثة، يضمّ قصصًا جميلةً و مؤثرةً تترك سحرها في نفس قارئها، منها الموضوع و منها المنقول المترجم من اللغة الفرنسية، أما الموضوع فمعظمه يحكيه الكتاب بلسانه، أي أنّه يضع نفسه مع شخوص الرّواية، يقاسمهم تفاصيل القصّة، و يعيش معاهم حيثياتها.

 

في التّدوينة السّابقة نشرنا أجمل 10 مقالات قرأناها للمنفلوطي حسب وجهة نظرنا المتواضعة. أما اليوم فإنّنا ننشر في موضوعنا هذا أجمل 5 قصص قصيرة وضعها المنفلوطي أو ترجمها ثم ضمّنها في مجموعته (النظرات).

 






غدر المرأة

جاء في بعض أساطير الإغريق أنّ رجلًا حكيمًا أحبّ زوجته حبًّا استعبده و ملك عليه كل حبّة من حبّات قلبه، فكان أعظم النّاس غبطة بها عندما يعرف أنّها اليوم بجانبه لا تفرقه، و أشدّهم حزنًا و كمدًا إذا تذكّر أنّه سيقضي في يومٍ من الأيام، و أنّ المرأة التي يهيم بحبّها سوف ترى لنفسها زوجًا حينها لا محالة، فكان يستحلفها في كلّ مرّة بكلّ ما هو مقدّس لديها، ألا تهِبَ نفسها إلى رجلٍ غيره إذا حدث و سبقها إلى تلك الدّار. فتقسم له بالآلهة أنّها لن تتزوّج غيره بعد موته، فيهدئ روعه، و يسكن اضطرابه، إلى أن تعود إليه و ساوسه و هواجسه.

ثمّ حدث في أحد الليالي أنّه مرّ على إحدى المقابر، فرأى أن يزور أجداثها لعلّه ينسى بعضًا من همومه و أحزانه، و ما إن دخلها حتى لمح امرأة حاملةً في يدها مروحة و تقوم بتجفيف تراب أحد القبور. فلمّا اقترب منها و سألها عن سبب صنعها لما تصنع، أخبرته أنّها فقدت زوجها منذ ثلاثة أيام، و أنّ بناءها برجل آخر سيكون اللّيلة، و أنّها قد عاهدت زوجها قبل وفاته ألا تتزوّج إلا بعد أن يجف قبره. فلمّا عاد إلى بيته قصّ الواقعة على زوجته فاستهجنت فعل تلك المرأة، و استقبحت صنعها، ثمّ حنَت عليه و وعدته ذلك الوعد الذي اعتادت أن تهدّئه به.

مضى على ذلك عام واحد، سقط بعده الزّوج مريضا طريح الفراش، و ما هي إلا جولةٌ أو جولتان مع المرض، حتى مات الرّجل و قضى. وضعته زوجته في غرفة و أسبلت عليه ستارًا، و انتحت إلى غرفة أخرى تبكي و تنتحب حتى جاءتها خادمتها و أخبرتها أنّ شابًا من معارف الميّت قد ساء حاله بعد معرفته بخبر هلاك أستاذه، و أنّها إن لم تدركه السّاعة فقط يلحقه هو الآخر. فأسرعت إليه لترى ما حلّ به، فإذا بها ترى أجمل رجل وقع عليه نظرها، فعالجت ألامه ثمّ عرضت عليه الزّواج بها، فأخبرها أنّه مريض مشرف على الهلاك، و أنّ لا أمل له في الشّفاء إلا بأكل دماغ ميّت ليومه. 

هنا ذهبت المرأة إلى غرفة الميت و في يدها فأس حادّة، فرفعتها فوق رأسه لتفجّر دماغه فما كادت تفعل حتى رأته يحدّق إليها بعينين شاخصتين، ثم سمعت حركة فالتفتت فإذا بالخادمة و الشّاب وراءها و هما ينفجران ضحكًا، ففهمت كلَّ شيء. و هنا دنا منه زوجها و أخبرها أن المروحة في يد المرأة التي كانت تجفّف قبر زوجها، أرحم من النّصل في يدها و هي تقبل على شقّ رأسه، فنبض قلبها نبضة كانت هي آخر عهدها بالحياة.

 

 

الأجواء

يُحكى أن أحد رجال فرنسا العظماء فقد زوجته التي كان يحبّها حبًّا شديدًا و يستهيم بها الهيام كلّه، فحزن لوفاتها حزنًا عظيمًا، و لم يجد غير الحانات  و الأندية ليروّح بها عن نفسه الحزينة الكئيبة وحشتها و عزلتها. و لازال يقصدها و يزورها الواحدة تلو الأخرى حتى سلاها و برم بها، و إنَّه لمارٌّ ذات ليلة بشارع (مونمارتر) و هو شارع يضمّ الغوغاء و فضلة المجتمع، فوقف على باب إحدى الخانات، فلمح على البعد امرأة واقفةً على طاولة وسط حشدٍ كبير، و هي ترقص و تلهو و على جسدها المرضوض بعض الثّياب و المزق التي لم تستر منه إلا قليلًا، و الرّجال حولها يدفعونها بأيديهم و عصيّهم. استأنس الدوق لمنظرها الجديد عليه، و دخل الخان و جلس إلى إحدى طاولاته.

 

و ما إن انتهت تلك الفتاة من رقصها و لهوها و مجونها حتى دعاها إلى طاولته، ففرحت بذلك فرحًا عظيمًا، كيف لا و هي لم تعتَد على أن يدعوها من هم بمثل زيّه و هندامه و هيبته. جلست إليه و قصّت له جملة حالها، و أخبرته أنّها فتاة منقطعة عن العالم لا سند لها و لا معين، فاقترح عليها أن يأخذها إلى قصره كصديقةٍ قريبةٍ، و أن يقوم على شأنها لا ينقصها شيء، فقبلت فرحةً مسرورةً، و ما كادت تأفل شمس ذلك اليوم حتى أصبحت تلك البائسة المسكينة،  سيدة قصرها و صاحبة الأمر فيه، بعد أن كانت لعبةً في أيدي فضلات المجتمع الانساني.

عاشت (مارسيل) حياةً رغدةً في قصر الدّوق الذي أكرمها و أنزلها منزلة البنت من الأب، و مضى على حياتها الجديدة بضعة أشهر قبل أن تمرّ بحي (مونمارتر) مع الدّوق في إحدى خرجاتهم، فطلبت منه أن تزور خانها لتعرف ماذا حلّ بأهله و متعهّديه،  فلم يرَ ضيرًا في ذلك. و ما إن دخلت إليه و جلست إلى إحدى طاولاته حتى التفّ حولها معارفها من زوّار الخان، و ألّحوا عليها أن تؤدي لهم بعضًا من رقصها، فاستأذنت الدّوق فأذنها، فأصعدوها على إحدى الموائد و أدّت لهم ما أرادوا من الرّقص، ثمّ أنزلوها و عادت إلى قصرها.

هنا تسلّلت إلى نفس (مارسيل) هواجس الماضي و ذكرياته، فحنّت الحنين كلّه إلى حياتها الساّبقة، و ما لبثت أن حكمت على الدّوق بأنّه سجّانها، و أنّ هذا القصر هو سجنها الذي لا مخرج لها منه، فما كادت تشرق صباح اليوم الموالي، حتى نزعت حليّها و ثيابها، و لبست عوضًا عنها ثياب الرّقص التي جاءت بها أوّل مرّة إلى القصر، ثمّ تسلّلت إلى خارج القصر من حيث لم يشعر بها شاعر، و عادت إلى خانها، أي إلى حياتها القديمة حياة الرّقص و المجون.

تألّم الرّجل لفقدانها ألمًا شديدًا، و عاد إلى عزلته و انفراده تمامًا مثل الأيام التي تلت فقدانه لزوجته. مضى على تلك الواقعة عام أو بضع عام، و بينما كان الدّوق عائدًا إلى قصره في إحدى اللّيالي، إذا به يعثر على فتاةٍ أمام قصره، أخذ منها الموت كلّ شيء إلا روحها، فدنا منه ليعرف من تكون، فإذا هي (مارسيل)، و إذا بها مريضة مشرفة لم يبق من عمرها إلا الرّمق الأخير، فأقبلت على يدها تقبلها و تغسلها بدموعها طالبةً منه العفو و الصّفح على تركها له، فأشار على خدمه أن يحملوها إلى غرفتها بالقصر، ثمّ أمرهم أن يأتوها بالطّبيب، فجاءها لكنّ علاجها لم ينفع، و دواؤه لم ينجع، فكان الموت أسبق إليها من الإبلال.

ثمّ إنّ الدّوق تأثّر بوفاتها أيّما تأثّر، و فاقت حسرته بفقدان (مارسيل) حسرة فقدانه لزوجته، فلم يعش بعدها طويلًا ليلحق بها إلى تلك الدّار.

 

في أكواخ الفقراء

كانت ليلة عاصفة غزيرة الأمطار، لا يتوقف فيها الرّيح عن الصّفير، و لا العاصفة عن العويل، و كانت (ماري) في كوخها مع ولديها الصّغيرين النّائمين، تصلّي و ترفع يديها إلى السّماء، راجية من الله أن يردّ لها زوجها الصّياد (فيليب) بالحفظ و السّلامة، في هذه الأجواء الحانقة الغضوبة.

خرجت تلك المرأة المسكينة أمام كوخها حاملةً سراجًا شحيح النّور، لتتفقّد الوضع بالخارج، علّها ترى شبح زوجها قادمًا من بعيد، فإذا بنظرها يقع على كوخ جارتها الأرملة (جانيت)، تلك المسكينة التي التهمت أمواج البحر الجائعة زوجها الصّياد، فرمّلتها و يتّمت ولديها الصّغيرين، الذان لازالت تكدّ و تعاني من أجل توفير اللّقمة لهما.

توجهت نحو كوخها و طرقت الباب طرقًا خفيفًا فلم يُجب أحد، فدفعته برفق و ما إن فُتِحَ أمامها حتى رأت (جانيت) مطروحة على الأرض و قد فارقت روحها جسدها، و المياه تنحدر من كل جوانب ذلك الكوخ المتداعي، ثم أدارت بصرها فإذا بولديها الصّغيرين نائمين نوماً هانئًا، رسم على محيّيهما ابتسامة صفراء ذابلة. فأملى عليها واجبها الانساني، أن تلتقطهما من فراشهما و تأخذهما إلى كوخها و تُعنَى بتربيتهما بعد أن أصبحوا بلا معيل و لا معين.

أضجعت (ماري) طفلي (جانيت) بجانب طفليها، و أسبلت عليها غطاءًا واحدًا ضمّهم أربعتهم، و جلست تنتظر طلوع الفجر لعلّ (فيليب) يأتي ظافرًا من معركته مع البحر. و إنّها لكذلك فإذا بالباب يُفتَح ببُطئ، و إذا بزوجها واقفٌ أمامها و قد بلّله الماء من رأسه لقدميه، فعانقته و حمدت الله على رجوعه سالمًا و لو أنّه عاد صفر اليدين، ثمّ قصّت عليه ما حدث لجارتهم الأرملة، فتألّم ألمًا مريرًا، و أشار عليها أن تذهب لجلب طفلي (جانيت) ليتولّى تربيتهما مع أولاده، ثمّ ما لبث أن رفع الغطاء ليطمأنّ على طفليه، فإذا به يجد أربعة أطفال نائمين نومًا هانئًا، فعلم أنّ زوجته هي من جلبتهم إلى كوخه، فاغتبط لذلك اغتباطًا شديدًا رغم فقره و فاقته، و رغم أن إعالة أربعة أطفال هي بمثابة إعالة عائلتين، قبل أن يتذكّر أن الموت قد خطف منه طفلين في الماضي، و أنّه ما كان إلا ليعيلهم لو كُتِبَ لهم العيش في لوح الأقدار، فأحس ببرد الرّاحة في نفسه، و أخذ على نفسه عهدًا أن يقوم على إعالة هذه العائلة الكبيرة، زوجته، و طفليه، و اليتيمين.

 

اللّقيطة

في إحدى الليالي الباردة، يمرّ رجل من أصحاب المال و الجاه على فتاة مشردّة، ترتدي أسمالًا باليةً بالكاد تغطّي جسدها. فيدنو منها ليعرف منها سبب حالتها المزرية التي آلت إليها، فتخبره أنّها فتاةٌ لقيطة لا أب لها ولا أم، تبنّاها أحد الرّجال من أولئك الذين لا همّ لهم إلا ملء خزائنهم و لو كان ذلك على حساب آلام الآخرين، فكان يجبرها على أن تتسوّل و تأتي له بالمال، و ويلٌ لها إذا نقص درهمٌ واحدٌ من المبلغ المتّفق على تحصيله، فإذا حدث ذلك، أذاقها عذابًا مريرًا لا يقوى جسدها الصّغير على احتماله. إلى أن حدث في إحدى الأيام أن راودها على نفسها، و أراد أن يسلبها تلك الجوهرة الثّمينة التي هي كلّ ما تبقّى لها من أمل تحيا لأجله. فدفعته عن نفسها دفعًا، ثم غافلته و خرجت من بيته هائمةً على رأسها، لا تعرف لها سبيلًا تسبله، و لا مأوى تأوِ إليه، حتى التقت بذلك الرّجل الكريم الذي حزّ في نفسه منظر بؤسها و شقاءها، و أبت عليه نفسه الكبيرة أن يتركها على حالها تلك دون أن يمدّ لها يد العون، فاصطحبها معه إلى قصره، و أنزلها منزلة الأبناء من الآباء. و كان كلّما سأله سائل عن صلة تلك الفناة الغريبة، أخبره أنّها ابنة أحد أقربائه، توفيّ و تركها دون سند و لا عضد، فأملى عليه واجب النخوة و الشّهامة أن يكفلها و يقوم على شؤونها حتى يقضي الله في أمرها.

ظهرت تلك الفتاة كسيدة من سيدات القصر، و كانت ذات حسن و جمال و أخلاق، فأحبها كلّ من رآها، و أنزلها الجميع منزلة الحب و الاحترام من قلوبهم، إلا ابنة صاحب القصر، فقد كانت فتاة سيّئة الأخلاق، فظّة الطّباع، لا يهمّها إلا مظهرها أن تزيّنه، و كانت كلّما صادفت تلك الفتاة المسكينة في طريقها، أهانتها و ازدرتها، دون أن تلقي الأخرى لها بالًا، أو حتى تفكّر في إبلاغ أبيها بفعلتها، رحمةً منها عليه أن ينكشف له من شخص ابنته، ذلك الجانب المظلم الذي لا علم له به.

في إحدى الليالي يعثر الأب في منزله على قطعة ورق مكتوب عليها توقيت ميعاد يجمع بين شاب و حبيبته، فيخلص من خلالها إلى أنّ الفتاة المعنيّة ما هي إلا ابنته، فتدور به الأرض، و يكاد يسقط مغشيًا عليه لولا أنّه تجلّد و جمع شتات نفسه، و رأى ألا يحكم على ابنته إلا بعد أن يتأكدّ بنفسه من صحة ما جاء في تلك القصاصة.

 

في ذلك الحين كانت ابنة صاحب القصر تتزيّن و تتجمّل و تعدّ عدّتها للقاء عشيقها، في الوقت الذي كانت فيه الفتاة اللقيطة الشريفة نائمةً في مخدعها لا يفسدُ عليها رقدتها تلك سوى وقع أقدام صاحب القصر الذي كان يروح و يجيء بين درجات سلم البيت. فلمّا رأته من حيث لا يراها، على حالته تلك مهمومًا ملتاعًا، عرفت كل شيء، و علمت أنّ السّر الذي كانت تجاهد نفسها لإخفاءه عنه، قد بدا له و ظهر أخيرًا، فلم ترَ بدًا من أن تردّ له معروفه و أن تحلّ محلّ ابنته في ذلك الموعد الغرامي، فحذرّتها و اقترحت عليها أن تنزل إلى ساحة الحديقة مكانها عند منتصف اللّيل، فقبلت الأخرى، و حدث ما حدث، و صدّق صاحب القصر أنّ ابنته بريئة، و أنّ تلك الفتاة التي التقطها من الشّارع منذ بضع سنوات قد خانت شرفه، و لوّثت اسمه، فلم يرَ بدًا من أن يطردها من قصره طردةً لا قبل لها بالرّجوع إليه من بعدها. فما هي إلا سويعاتٌ معدودةٌ، حتى ألفت الشّريفة نفسها طريدة في الخلاء، و الخائنة بريئةً طاهرةً بين أحضان أبيها.

جلست تلك الفتاة المسكينة على طرف أحد الأنهار، و أخذت بقلمها لتكتب آخر كتاب لها في هذه الدار، تخبر فيه سيّدها حقيقة ما حصل، و ما إن انتهت منه حتى وضعته في صندوق اعتادت أن تضع فيه أغراضها، ثمّ رمت بنفسها في النّهر، فما هي إلا دقائق معدودة حتى فاضت روحها الطّاهرة إلى السّماء، و طفى جسدها العفيف فوق صفحة الماء.

ندم صاحب القصر على ما جرى للفتاة البائسة، و بكاها بكاءً مريرًا كمن يبكِ ابنته التي من صلبه، و ظلّت نفسه تعاتبه و تصوّره بصورة المجرم الآثم، الذي قتل نفسًا آوت إليه. و مع مرور دورة الأيام، انكشف له من طباع ابنته ما كان مستورًا، وعرف أنَّها فاسدة الأخلاق و الطّباع. و إنّه ليقلّب الصّندوق  الذي اعتادت أن تحفظ فيه تلك الفتاة الذي ضحّت بحياتها من أجل شرفه، إذ وجد ذلك الكتاب الذي خطّته في آخر ساعات حياتها، ففهم منه كلّ شيء، و ما كاد يفعل حتى سقط طريح الفراش، يبلى يومًا و يمرض أيامًا، حتى انقضى أجله، و التحقت روحه بتلك الرّوح العلويّة هنالك في السّماء.

تحمل هذه القصّة الحزينة في طياتها مغزيين عظيمين، الأول أنّ الرّجل الذي يوجد ولدًا في الحياة ثمّ ينفض يده منه، و يتركه بين أنياب الدّهر، مجرمٌ آثم، لا تطاوعه نفسه الشّريرة أن يكبح شهوته العابرة، في سبيل استنقاذ نفس بريئة، تولد في هذا العالم الموحش للبؤس و الشّقاء. أمّا الثّاني، فهو أنّه لزامٌ على المرء أن يتحقّق من كل ما يريبه، و ألا يصدّقإلا ما يراه بعينيه، و أنّ كثيرًا من النّاس قد نخطئ في الحكم عليهم، و ننزلهم منزلةً غير منزلتهم، بمجرد أنّنا حكّمنا عواطفنا، و رضينا بالقليل الذين نعرفه عنهم.

 

الانتقام

يقضي السّيد (كابريني) مدة من الزّمن سعيدًا مغتبطًا في سعة من العيش، قبل أن يخسر ماله و يفقد زوجته، ليجد نفسه وحيدًا مع ابنته في وجه أرزاء الحياة و غوائلها. لكن سرعان ما يجد وظيفة في أحد المصارف ، فيكدّ في عمله و يجدّ، حتى يتمّ ترقيته إلى وكيل لذلك المصرف. ثم سرعان ما يتزوّج بامرأة لا همّ لها في دنياها إلا الاستمتاع بالملذّات، و الانغماس في الشّهوات، فكان حظّه فيها سيئًا سوء طباعها، و ماكان ليصبر عليها و يطيق العيش معها، لولا ابنته (ايلين) التي كانت مصدر سعادته الوحيد في حياته.

ذات يوم و بينما السيّد (كابريني) منهمك في عمله بالمصرف، إذا بمديره المسيو (لورين) يعطيه ورقة بقيمة 5000 فرنك و يأمره بوضعها في غرفة الودائع و تسجيل ذلك، فيهمّ بذلك و ما يكاد يفعل حتى يأتيه بوّاب المصرف إلى مكتبه و يخبره أنّ هنالك فتاة بانتظاره خارج المصرف، و أنّها تلّح أن يأتيها في الحين لأمر طارئ. فيضطرب لذلك اضطرابًا شديدًا و يسرع إليها ليعرف سبب زيارته المفاجئة له، تاركًا ورقة النقود التي كلّفه المدير بوضعها في غرفة الودائع فوق مكتبه. و ما إن يصل إلى (ايلين) حتى يراها تحمل كتابًا بين يديها من زوجته إليه، تطلب منه فيه الإسراع في ارسال مبلغ 4000 فرنك لتبتاع إحدى الحليّ الثّمينة، فيستشيط غضبًا، و يزجر ابنته على القدوم  إلى مكتبه حاملةً كتابًا كهذا، ثم يأمرها بالانصراف.

 يعود (كابريني) إلى مكتبه، فيمزّق رسالة زوجته قطعًا قطعًا و يرميها في سلة المهملات. ثم يدور بنظره إلى طاولته فلا يعثر على الوديعة التي تركها فوقها، فيجنّ جنونه، و يفتّش عنها في كل مكان فلا يجدها، و يسأل كلّ موظّف في البنك عنها فينكر كلّ أحد رؤيتها، لأنّه في الوقت الذي خرج فيه الأب لملاقاة ابنه خارج المصرف، دخل أحد عمّال المصرف فاسد الأخلاق، وضيع النّفس، إلى مكتبه، فاختلس ورقة النّقود ثمّ خرج من حيث لم يشعر به شاعر.

نزل مدير المصرف المسيو (لورين) إلى مكتب وكيله السّيد (كابريني)، و سأله عن مكان الوديعة، فأنكر معرفته به، فارتاب المدير لأمره و هو يعلم في نفسه أنّه موظّف شريف نزيه، لا تسوّل له نفسه مد يده إلى مال غيره. لكن سرعان ما غيّر (لورين) رأيه، فقد لمح مزقًا صغيرة في السّلة، و لمّا جمعها ببعضها و قرأها ظنَّ باطلًا أنّه قد فهم منها كل شيء، فالتفت إلى (كابريني) و اتَّهمه بسرقة المال، و ما هي إلا بضع ساعات حتى أصبح الرجل حبيس زنزانته، و وحيدته حبيسة همومها.

زارت (ايلين) المسيو (لورين) في قصره لتستجديه العطف على أبيها، فاستحسنها و أراد أن يهمّ بها، فامتنعت عنه و صدّته عن نفسها، و لما رأت منه تعنته و اصراره، أطلقت عليه رصاصة في كتفه من مسدس كان موضوعًا فوق طاولته. فاتّهمتها الشّرطة بمحاولة قتله، و لم تكد تغرب شمس تلك اللّيلة، حتى لحقت بأبيها إلى السّجن لاستنفاذ عقوبة خمس سنوات.

قضت (ايلين) مدة حبسها، فخرجت من السّجن لا تعرف لها ملجأً و لا مأوى، فحتى والدها الذي كان سندها الوحيد في الحياة قد توفي في سجنه متأثّرًا بالمرض. فكّرت في الانتحار، لكن سرعان ما غيّرت رأيها و رأت أن تحيا لتنتقم لنفسها، و لأبيها، من الرّجل الذي أفسد عليهما حياتهما ظلمًا و بُهتانًا. فلم تجد بين يديها غير عرضها تبيعه، فغيّرت اسمها إلى (لوسي)،  و باعت شرفها بأبخس ثمن، و ما هي إلا شهور معدودة حتى أصبحت تلك الفتاة الحييّة بالأمس، نجمًا ساطعًا في سماء مدينة (باريس)، و سيّدتها الأولى اليوم.

و لا زالت تتّقرب من المسيو (لورين) و تحوك له الشّراك حتى تعرّفت به دون أن يعرفها من تكون. و أوقعته في حبائل الحبّ الزّائف، فأصبح معبودها الذي يقف عند كلّ رغباتها مهما عظمت. فابتاع لها القصور الفخمة، و الدّمالج الثّمينة، و الأثاث الحسن، و راح يغلو و يسرف في الانفاق عليها حتى أصفرت يداه من المال، فلم يجد بدًا من أن يمدّهما إلى ودائع النّاس في مصرفه، ففعل ذلك، لكن سرعان ما انكشف أمره فعزم على الفرار و أشار على حبيبته (لوسي) أن تهيّئ نفسها للسفر معه، فاتّصلت بالشرطة و أخبرتهم بعزمه على الهروب، ثمّ أوصدت الأبواب و أمرت الخدم بحبسه، و أخبرته بكلّ شيء، و أنّها لم تخادنه و تصاحبه إلا لتقوده إلى الهلاك، فبكى بكاءًا شديدًا لا لأنّه سيُسجن، بل لأنّ (لوسي) ما أحبته قط كما كان يظنّ.

حكم القضاء على (لورين) بالسّجن عامين، عانى خلالهما ويلات المرض، فتمّ نقله إلى أحد المستشفيات أين تعمل (ايلين) كمتطوّعة فيه بعد أن تركت حياتها السّابقة. فعرفته لما رأته، فرثت لحالها و تعهّدته برعايته و تطبيبه حتى تعرّف عليها في أحد الأيام، فبكيا بكاءً مريرًا، وطلب كلّ منها من الآخر أن يعفو عنه، و ما هي إلا أشهر معدودات حتى مات (لورين) و اختارت (ايلين) أن تكمل ما تبقّى من حياتها في الدّير مع أخواتها الرّاهبات.

Post Navi

تعليقات