ملخص مجموعة (الأرواح المتمرّدة) لجبران خليل جبران

القائمة الرئيسية

الصفحات

ملخص مجموعة (الأرواح المتمرّدة) لجبران خليل جبران

 

ملخص مجموعة (الأرواح المتمرّدة) للجبران خليل جبران

 

الأرواح المتمرّدة هي مجموعة قصصيّة لجبران خليل جبران، نُشِرَت عام 1908 بأمريكا، و فيها يحكي الكاتب عن مصائر الأرواح التي تثور ضد النّواميس الفاسدة، و القوانين الباطلة، التي سنّها الحكّام و رجال الدّين، ليكبّلوا بها أعناق المستضعفين، و يُثقِلوا أجسادهم بها، حتّى يتسّنى لهم إحكام قبضتهم على مناصبهم، و ضمان ديمومة أيام سعدهم و هناءهم، لكن ماذا لو يثور العبد المستضعف على القانون الوضعي؟! ماذا لو يقف في وجه الحاكم المتجبّر، و الرّاهب المنزّه عن السّهو الخطأ؟!



 







وردة الهاني

بعد مدّة قضاها بعيدًا عن أرض الوطن، يعود الكاتب إلى بيروت و يعرج على أحد أصدقاءه و هو (نعمان رشيد بك) ليطمأنّ على حاله، و يجدّد عهد الصّداقة بينه و بينه. و رشيد رجل من أرباب الثّروة و الجاه، يحذو حذو آبائه و أجداده في معيشتهم، أي أنّه لا ينفكّ يذكر مآثرهم في حديثه، و أمجادهم في كلامه.

ما إن دخل عليه حتى رآه منقبضًا كئيبًا، كأنّه رجل غير ذلك الرّجل الذي عرفه من قبل. ثمّ بعد أن حيّاه سأله عن سبب كآبته و حزنه فأخبره أنّ الفتاة التي آثرها على جميع نساءالكون، و أسبل عليه من خيراته، و أغدق عليها من نعمه، قد تركته و تركت هذا القصر البديع، و الخدم المطيع، لتصل حياتها برجل مفلوك بالكاد يحصّل قوت يومه. و أنّه مذّ تركته لم يعد يعرف طعم الحياة، و لا حلاوة العيش، لأنّه أحبها و كان لها أكرم الأزواج و أجودهم، فأنكرته و كانت أقبح النّساء طبعًا، و أخسهنّ خُلقًا.

تألّم الكاتب لمصاب صديقه، و عزّاه بما يعزّي به الرّجل صديقًا عزيزًا ألمّت به فاجعة من فواجع الدّهر، ثمّ خرج من منزله و لا شاغل يشغله غير معرفة الواعز الحقيقي الذي دفع بـالسّيدة (وردة الهاني) إلى ترك العيش الرّغد، و الحياة اليسيرة، و إيثار حياة الشقاء، و عيش الشّظف.

مرّت على هذه الحادثة بضعة أيام، و بينما الكاتب مارٌّ بين أزقة أحد الشّوارع الضيّقة، إذا به يلتقي صدفة مع السّيدة (وردة)، تلك التي شكاه لها صاحبه بالأمس. و دون أن يحدّثها دعته إليها و أخبرته أنّها سمعت من بعض معارفها أنّه صديق مقرّب لـ (نعمان بك)، و أنّه قد نزل ضيفًا عنده منذ عهدٍ قريب، و أنّه لا ريب قد حدّثه في شأن تركيها لبيته و ماله و أثاثه و رياشه، برغبتيها و إرادتها المحضة، لتصل حياتها برجل غيره، و بما أنّه سمع منه، فلا بدّ أن يسمع منها هي الأخرى، لتكتمل القصّة، و تكتمل فصولها.

 ثمّ أنشأت تحدّثه قائلةً: "دخل بي (نعمان بك) زوجةً إلى قصره و أنا فتاة في العشرين، و عمره هو ضعف عمري آنذاك، فأكرمني و نزل عند كل ما أطلبه منه، فكان نعم الأزواج و أبرّهم بزوجاتهم، لكنّ زواجنا كان جسديًا فقط لا روحياً، فالفراش الذي كان يضم جثّتينا عجز أن يضمّ روحينا باسم المحبة. و كان (رشيد) يعتبرني أداة يتفاخر بها أمام أصحابه و أترابه، و يتفاخر الفخر كلّه، و يبتسم ابتسامة المنتصر، عندما يستحسنني أحدهم، و يبدي إعجابه بجمالي و شبابي. فكنتُ أتألّم ألمًا مريرًا لهذه العيشة التي أحياها و تميتني كلّ يوم، حتى إنّ بعضهم كان يظنّني ابنة (رشيد) فيتهامسون و يلمزونني، و أنا صابرةٌ متجلّدة. إلى أن جاء ذالك اليوم الذي رأيت فيها ذلك الشّاب الذي أقاسمه الحياة اليوم من نافذة قصري، و رأيت في وجهه شمس حرّيتي و معالم انعتاقي. و كم حاولت أن أدافعه عن نفسي فلم أقدر، لأنّ حبّي له كان أعظم من كل قوّة في هذا العالم. فما لبثت أن تركت ذلك القصر و ما فيه من نعم و خيرات، و التحقت بهذا الكوخ على اهترائه و حقارته، لأنّني وجدت فيه من الحبّ و المؤانسة، ما ضللته بين غرف و دهاليز القصر.

إنّ معظم سكان القصور مخادعون مراؤون، لا يضمرون لأزواجهم دقيقة من دقائق الحب أو الاحترام. فأعرف منهم من تزوّجت رجلًا من أجل جسدها و بطنها، و اتّخذت لنفسها عشيقًا لتُشبع جوع عواطفها. و من اقترن بامرأة لأجل اسمها و مالها، ثمّ ما إن يملئ جيوبها من ذهبها و فضّتها،حتى يرحل عنها ليتركها للغصّات و الحسرات تعضَها و تتناهشها. و الشّاعر الأديب الذي اتخذّ من امرأةً جاهلة زوجةً له، ثمّ ما لبث أن هجرها لامرأة شاعريّة الميول، روحيّة المذهب. و غيرهم الكثيرون ممّن ينافقون و يداهنون لأجل نيل مآربهم، كأنّ الزّواج عندهم سلعةٌ تُشتَرى و تُباع."

ما إن أتمّت (وردة الهاني) حديثها حتى دخل عليهما شاب هو نفسه ذلك الشّاب الذي أبدلت بحبّه العيشة الكريمة، و الحياة النّاعمة. فاستأذنهما الكاتب بالرّحيل فأذنَا له. و كانت الشّمس ساعتها تدلف إلى مضجعها، فمشى الكاتب و مشت في رأسه الأفكار و الآراء، و ظلَّ ساعةً يتقلب بين الهواجس، فتارةً يحكم على (وردة) بأنّها مجرمةٌ آثمةٌ، لأنّها كسرت قلبًا أحبّها و أكرمها، و تركته جريحًا لا يعرف طريقًا يعالج به آلامه. و تارةً يرى (رشيد نعمان) ظالمًا مغاليًا، لأنّه أراد ابتياع قلب امرأة لا تحبّه بالدّمالج و الخيول و الأثاث.

 

صراخ القبور

(يحكي الكاتب القصّة بلسانه، و يتبادل الحوار مع شخوصها، و يستعمل ضمير المتكلّم "أنا" الذي يعود إليه)

 

جمع الأمير أعوانه و شعبه في قاعة المحكمة ليريهم حكمه في ثلاثة مجرمين، عصوا الأوامر، و حادوا عن القانون و النّاموس.

خرج جنديان يقودان فتى في عزّ شبابه و هو مثقل بالقيود و الأغلال، و مشوا به حتى أوقفوه أمام الأمير، فسأل عن جريمته ليخبره أحد أعوانه أنّه شاب رفض أن يدفع الإتاوة، و عندما أصرّ عليه جامع الضّرائب بدفعها، امتشق سيفه و أرداه صريعًا بضربةٍ واحدةٍ. انتفض الأمير لذلك انتفاضًا، و أمر بإرجاع الشّاب إلى زنزانته، و إثقال جسده بالحديد و الفولاذ، ليُقطَع رأسه في فجر اليوم الموالي.

خرج الجنديان مرّة أخرى من الزّنزانة و هما يقتادان شابةً فتيّةً لم يمحو اصفرار وجهها جمالها الأخاذ، ثمّ أوقفاها بين يدي الأمير كما تقف الشاه بين يديّ الذّبّاح. فسأل عن سبب حبسها فأخبروه أنّها فتاةٌ زانية، استغلت غياب بعلها عن البيت الزّوجيّة، فواعدت عشيقها سرًا قبل أن يباغتها زوجها، ينكشف أمرها أمام الجميع. استشاط الأمير غضبًا، و انفجرت نفسه نارًا و شرارًا، و أمر الجند أن يعيدوها إلى زنزانتها و يفرشوا لها فراشا من شوك لتتذكر فراش زوجها الذي دنّسته، و يسقوها شرابًا مريرًا لتستحضر القبلات المحرّمة، و أن يرجموها صباح الغد، و يترك جسدها الملوّث بالخطيئة، طعامًا لكواشر الغاب و وحوش الدّاب.

خرج الجنديان مرّة ثالثة و خلفهما رجل كهل مضعضع الجسد، خائر القوى، فوضعاه أمام الأمير ليبتّ حكمه فيه، فسأل بصوت يضاهي صوت الأسد في قوّته و حدّته عمّا صنع ذلك الرّجل الضعيف، فعلم أنّه قد همّ بسرقة آنية الدّير الذّهبيّة، لولا أن تفطّن له القساوسة و أوقفوه. فأمر أن يُشنق بحبلٍ من كتان ليكون عبرة لغيره، و ماهي إلا ساعة حتى انفضَّ ذلك الجمع الغفير، و خلت قاعة المحاكمة إلا من صوت آهات المساجين و تنهيداتهم.

في صباح اليوم التّالي خرجتُ لأتمشّى هروبًا من ضيق البيت فرأيتُ مجموعة من الغربان و الطّيور الكاسرة تحوم حول مكان ليس بيعيد، فاتّخذت سبيلي إليه حتى إذا وصلت رأيتُ منظرًا يملؤ النّفس رعبًا و خوفًا. رأيت جثّة امرأةٍ عاريةٍ مطروحةٍ على الأرض و الكدمات تملؤ جسدها، و بجوارها شاب قد فُصِل رأسه عن جسده، و كهل مشنوق بحبلٍ من كتان على إحدى الأشجار.

و لم أكد أسترجع أنفاسي حتى ظهرت من العدم، امرأة تخطو خطوات بحذرٍ و رويةٍ، و تقدّمت نحو جثّة الشّاب مقطوع الرأس فعانقته و جعلت تبكي و تنتحب، ثمّ ما لبثت أن حفرت له قبرًا بيديها المرتجفتين، و وغرزت فوقه السّيف الذي قُطِعَ به رأسه و همّت مغادرةً فتقدمت نحوَها و سألتها عن سبب بكاءَها القتيل؟ فأخبرتني أنّه شاب عال الهمّة شريف النّفس، اسنقذها من العار. فقبل أيام معدودات أرسل الأمير أحد قوّاده ليجمع الضّرائب، فلمّا رآني سوّلت له نفسه الدّنيئة أن يراودني عن نفسي فصددتُ عنه، و لما رأى من تمنّعي ما قطع رجائه منّي، فرض على أبي الفقير إتاوةً لا يقدر على سدادها الأغنياء، و خيّره بين دفعها السّاعة، أو اقتيادي إلى الأمير. فصرختُ صرخةً عظمى أستنهض بها همم رجال القرية، فما إن دوَت في أذن هذا الشّاب -و هو خطيبي- حتى انتصب كالأسد الهصور في وجه القائد الظّالم الذي امتشق سيفه ليقضي على خطيبي فكان الأخير أسرع منه فأرداه صريعًا بضربةٍ واحدة من حد سيفه. و ما هي إلا ساعة حتى حضر جنود الأمير، و اقتادوا خطيبي إلى السّجن مكبّلا بالقيود، مثقلًا بالأغلال.

بعدها ظهرَ شابٌ يستر وجهه برداءه، و تقدّم نحو المرأة المرجومة، و أسبل عليها ثوبه، ثمّ تناول خنجرًا من طيّ رداءه و راح يحفر لها قبرًا، و لما انتهى من دفنها، قطف طاقة من الزهور، و وضعها فوق قبرها، الدموع تنحدر من عينيه انحدارًا. اقتربتُ منه و سألته عن صلته بهذه المرأة فأخبرني أنّها حبيبته، شبّا سويًا منذ طفولتها، و شبّ معهما حبّهما لبعضهما، و حدث في إحدى المرّات أنّني غبتُ عن المدينة لبضعةَ أيام، و لمّا رجعت عرفت أنّ أباها قد زوّجها برجل لاتطيقه، و أنّها تعاني مالا قِبلَ للقلب البشريّ على احتماله. فأهمّني أمرها، و اختلست إليها الخطوات في إحدى اللّيالي لأطمأنّ على حالها، فجلسنا إلى بعضنا و العفاف يحرسنا، و إنّنا لكذلك فإذا بزوجها يدخل بغتةً علينا، و يصيح بأعلى صوته أنّ زوجته زانيةٌ فاجرة، فما هي إلا ساعةٌ حتى حضر الجنود و ساقوها إلى الزّنزانة، ثمّ إلى المِرجمة.

بعدها بساعةٍ برزت امرأة ضعيفة، و وقفت أما جثّة الرّجل المشنوق المتمايلة يمنةً و يُسرةً بين أصابع الأرياح، و هي تبكي فقيدها و تندبه ندبًا مرًا. ثمّ تسلّقت الشّجرة و قضمت حبل الكتان، حتى إذا سقط المشنوق حفرت له قبرًا، و وضعت فوق ترابه صليبًا كانت قد صنعته من العيدان المتناثرة هنا و هناك.

دنوت منها و سألتها أنّى لها أن تبكيَ لصًا سارقًا مدّ يده إلى آنية الدّير؟ فقالت لي: ما هو بلصّ و لا سارق، بل هو رجل شريف لا يرضي أن تأتي يداه على ما ليس ملكه. أفنى زهرة شبابه في خدمة أراضي الدّير و تهذيب تربتها، و تشذيب شجرها، و لم يكن ينل في المقابل غير رغيف خبز يتقاسمه معي و أولادنا الخمسة، فلا نعرف طعم الشّبع أبدًا. و لمّا كبر زوجي و خانه ساعده، طرده الرّهبان من العمل، و أتوا بمن هو أفتى منه و أصغر. رجاهم أن يعيدوه إلى خدمة أرضهم فأبوا، و فتّش عن عمل في المدينة فرُفِض، و مدّ يده للسؤال فلم ينل شيئًا. و في إحدى اللّيالي اشتدّ الجوع بالأولاد، فجعلوا يتلوون سغبًا، فهاله منظرهم، و قادته غريزة الأبوّة إلى مخزن الدّير، لينال بعض الدّقيق، فحمل كيسًا منه و لما همّ بالخروج، أفاق الكهنة و اتّهموا زوجي باطلًا بسرقة الآنية الذّهبية، و هو لم ينل غير حقّه و فضلتهم. ثم  طلبوا حضور الجند، و ما هي إلا ساعات حتى وجد الرّجل نفسه حبيس زنزانته، فقتيلاً معلّقًا على الأغصان، تتناهشه العقبان.

 

مضجع العروس

مشت العروس مسبوقة بالشّموع، متبوعةً بالصّيحات و الأهازيج، و جلست إلى جانب العريس في جوٍّ صاخب يملؤه الرّقص، و الشّرب، و الأكل، و القصف. و كان جميع الحضور فرحين مغتبطين بذلك الحفل إلا شاب عشرينيّ قد انتحى إلى زاوية من زوايا ذلك البيت، و جعل يحدّق في سقفه دون أن يحرّك ناظريه، و عروس حزينة مكسورة القلب، لا زالت تراقب ذلك الشّاب و ترصد حركاته.

أسرف الحاضرون في شرب الخمر، فثملوا كلّهم و أوشكوا أن يغيبوا عن إدراكهم، و هنا همست العروس (ليلى) في أذن صديقتها و رفيقة روحها (سوسان) بعد أن استحلفتها، و أخذت منها ميثاقًا غليظًا ألا تفشي سرّها، همست لها أن تذهب إلى (سليم) و تخبره دون أن يشعر بها شاعر، أن يهبط إلى حديقة المنزل، و ينتظرها بين أشجار الصّفصاف. و ما هي إلا لحظات حتى حملة تلك الصّبية تلك الرّسالة من شفتيّ العروس إلى أذن الفتى الحزين، فأذعن لها و نزل إذ ذاك إلى الحديقة.

 

استرقت العروس الخطوات استراقًا من بين الحاضرين الثّملين، و مشت إلى الحديقة بحيطةٍ و حذر لعلّ هنالك من يتبعها، و ما إن دنت من أشجار الصّفصاف حتى لمحت حبيبها (سليم) فعرعت إليه، و طوّقته بذراعيها، و أخبرته أنّها تُزفُّ الآن إلى هذا الرّجل مُكرهة مُرغمة، و أنّها ما نكرت حبّها له أبدًا، و إنّما كُذِبَ عليها، و أخبروها باطلًا أنّ (سليم) حبّ حياتها، و نور حدقتيها، قد أحبّ فتاةً غيرها، لكنّها لم تصدّقهم لأنّها ترى أشعة الحبّ منبثقةً من عينيه و هو يستمع خاشعًا إلى حديثها.

و عندما وصلَت (ليلى) بحديثها إلى هذا الحدّ، اقترحت على حبيبها أن تهرب معه السّاعة، فيركبا إحدى السّفن المبحرة، و لا يعودان إلى هؤلاء النّاس أبدًا. و يكفيهما الحليّ و الجواهر الذي ترتديهما ليضمنا مستقبلًا هنيئًا رغدًا، فرفض حبيبها، و أخطرها أنّه سلاها و كرهها منذ وقت بعيد، و أنّ قلبه مشغوف بحبّ غيرها، و اقترح عليها أن تعود إلى عريسها و إلا صاح فجمع عليها أهل الوليمة و فضحها أمامهم. و لا زالت تحاول اقناعه بالهروب، و تقيم في نفسه تلك المعركة الطّاحنة بين ميول قلبه، و عزّة نفسه، حتى إذا علمت أنّ الأخرى قد تغلّبت على الأولى، و أنّ (سليم) الشّاب الشّريف أهون عليه أن يخسر حبّ حياته من أن يخطفه من بين يديّ زوجه، استلّت من طيّ أثوابها خنجرًا و طعنته به طعنةً نجلاء مميتة، شكرها عليها حبيبها لأنّها حرّرته أخيرًا.

أنشأت (ليلى) تبكي و تصيح و تنتحب بأعلى صوت، فاجتمع أهل العرس في الحديقة، و طارت نفوسهم شعاعًا لهول صورة ذلك الشّاب المسكين و هو غارق في دماءه، و ما هي إلا ساعة حتى رفعت العروس الخنجر و أغمدته في صدرها، و سقطت بجانب حبيبها، فطبعبت على شفتيه قبلة الموت، بعد أن حُرمِت منها في الحياة، و فاضت روحها بجانب روحه.

 

خليل الكافر

انتخب الشّيخ (عباس) نفسَه بنفسِه حاكمًا على أولئك القرويين البسطاء، و كان يستغلّهم في ملء صندوقه بالذّهب و الفضّة، و مخازنه بالحبوب و الفواكه، و لا ينالون مقابل كدّهم و تعبهم غير طعامٍ ذليلٍ لا يسدّ جوعهم، و لا يُسكتُ أنين صغارهم. و قد استعان (عباس) برهبان الدّير ليحكم قبضته على سدّة الحكم، و يضمن لنفسه الثّروة و السؤدد. فكان الرّهبان يكفّرون كل من تسوّل له نفسه التّشكيك في عدل الحاكم، أو اتّهامه باغتصاب الخيرات و الاسئثار لنفسه بالأراضي و الحقول.

بمجيء ديسمبر ينزل الشّتاء ضيفًا ثقيلًا على تلك القرية، فيفرّ ساكنوها إلى أكواخهم طالبين الدّفء و المأوى، هاربين من غضب الطّبيعة و تجهّم العناصر.  في هذا الوقت بالذّات، كان شاب عشريني يسير ببطئ نحو القريّة قادمًا من دير (قزحيا) و هو يقاوم العاصفة و الثّلج، قبل أن يستسلم أمامهما و يطلق صرخةً مدويّةً ثم يسقط مغشيًا عليه.

ما إن دوّت هذه الصّرخة في الفضاء حتى سمعتها (مريم) التي تعيش مع أمّها (راحيل) أرملة (رامي السّمعان) الذي وُجدَ مقتولًا قبل خمس سنوات دون أن يُعرَف قاتله. ارتعشت كبد (مريم) ذو الثمانية عشر ربيعًا، فتبعت مكان الصّيحة هي و والدتها حتى عثروا على (خليل) مدفونًا تحت الثّلوج، فتعاونتا على حمله إلى الكوخ، و قاما على خدمته حتى استعاد و عيه.

و بعد أن استفاق ذلك الشّاب المسكين، سألته الأم عن سبب خروجه في هذه العاصفة الغضوب، خصوصًا و أنّه كان يرتدي ملابس الرّهبان، و دور الرّهبان مليئة بالأكل و المشارب عكس أكواخ تلك القرية الفقير أهلها، فقصّ عليها قصّته كاملةً، و أخبرها أنّه ترك الدّير و ملذّاته لأنّ نفسه الكبيرة أبَت أن تحيا على حساب تعب الفلاحين الفقراء، الذين يزرعون أرضهم بالخيرات، ولا ينالون مقابل ذلك إلا النّزر القليل، لأنّ الرّاهب و الشّيخ (عبّاس) يسرقون غلّة اتعابهم، و محصول اجتهادهم، بعد أن يخنقهم الأول باسم الصّليب، و يخضعهم الثّاني بحدّ السّيف.

أخبرهم أنّه خرج مطرودًا من الدّير لأنّه واجه راهبيه بجريمتهم التي يرتكبونها في حقّ الفقراء، فهم يملؤون بطونهم دون أن يغرسوا أو يحصدوا، و يسكبون في أقداحهم دون أن يقطفوا أو يعصروا، و يقضون أيامهم و لياليهم في سراديبهم المظلمة في خمولٍ و كسل، دون أن يقدّموا أي خدمةٍ للبشريّة.

رثت الأمّ و ابنتها لهذا الشّاب المسكين، و استحلفاه أن يبقى معهم إلى أن تزول العاصفة، و ينقضي الشّتاء، في كل مرّة كان يهمّ فيها بالرّحيل عن تلك القرية.

انتشرت الأخبار أنّ شابًا مطرودا من الدّير يساكن أرملة (رامي) و ابنتها الكوخ نفسه، فحمل (الخوري إلياس) الأخبار إلى الشّيخ (عبّاس)، فأمر رجاله أن يأتوه بهذا الشّاب المتمرّد، الذي عصى معلمّيه، و حاد عن تعاليمهم. و ما هي إلا ساعة حتى حضر الجند إلى كوخ (راحيل)، و قيّدوا (خليل) ثمّ  اقتادوه إلى منزل (عبّاس). و تبعته إذا ذاك (مريم) و (راحيل) و سكّان القرية الذين ما سمعوا بالخبر حتى انساقوا وراء فضولهم، ليرووا ماذا يصنع الشّيخ (عبّاس) بطريد الدّير.

وقف (خليل) الضّعيف أمام المحكمة التي أقامها الشّيخ (عبّاس) القويّ. و لما سُئِلَ عن سبب تمرّده على رهبان الدّير، أجابَه بشجاعةٍ أنّه لا يرضى أن يحيا حياةً كالتي يحياها هو و كهنة معبده، حياةٌ قائمةٌ على اضطهاد الضّعفاء، و اغتصاب غلّتهم التي زرعوها بأيديهم في أراضٍ ورثوها عن أجدادهم. و كان (خليل) يخاطب كلّ ذلك الجمع الغفير من القرويين المساكين، و يبيّن لهم بالدّليل القاطع، و الحجّة الدّامغة، أنّ (عبّاس) و قسّيسيه ما هم إلا حفنة من اللّصوص، و المجرمين، و الكذّابين، و أنّهم ما نذروا متاعًا من متاع الحياة أبدًا، بل هم أكثر النّاس حبًّا للملذات، و شغفًا بالماديات. و لما أحسّ ذلك الشّاب الذي فعل ما لم يستطع غيره فعله على مدار السّنين، أنّه قد أصاب ما كان يريد أن يصيبه من نفوس القرويّين، عاد إلى الوراء قليلًا و توسّط (مريم) و (راحيل) التي تشجّعت و وقفت في صفّ (خليل) هي الأخرى، فاستشاط الشّيخ (عبّاس) و توعّد بقتلها كما قتل زوجها قبل خمس سنوات، فاعترف بجريمته من حيث لم يشعر. و جعل يأمر خدمه و جنوده بجرّ (خليل) إلى السّجن فلم يذعنوا له، بل فكّوا وثاق ذلك الفتى الذي أوقد في قلوبهم نار الحريّة. ثمّ ما لبثوا أن تبعوه إلى الكوخ ليسقوا نفوسهم الظمآنة من ماء حكمته الزّلال.

و لما انقضى شتاء ذلك العام، خرج الفلاحون ممتشقين معاول النّشاط، و جعل كلّ منهم يحرث أرضه و يقلب تربته بسواعد التّفاني، و لما حلّ موسم الحصاد و الجني، امتلأت الحقول و البساتين بالأثمار و الحبوب، فتقاسم القرويون الغلّة فرحين مغتبطين، و امتلأت أكواخهم بالخيرات و المحاصيل على عكس ما عهدوه في أيام حكم (عبّاس) الظّالم. و لم يمرّ وقتٌ طويل حتى ضمّ إله الحبّ (خليل) و (مريم) كزوجٍ و زوجة. أما ماكان من أمر الشّيخ (عبّاس) أنّه اضطرب عقله فجُنّ، لأنّه كان يتمثّل له خيال (رامي سمعان) كل ليلة في شكل جثّة مضرجةٍ بالدّماء، و لم ينتفع كثيرًا بنفسه و هو على حالته تلك، حتى جاء أجله فقضى.

Post Navi

تعليقات